مقارنة الفضل بين الصبر والدعاء لمجاب الدعوة
ثم بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله هذه الحوادث وغيرها، وهي موجودة في حلية الأولياء ، وفي صفة الصفوة لـابن الجوزي رحمه الله؛ استطرد إلى هل الأفضل لمن كان يعلم أنه مجاب الدعوة، أو أن الله تعالى يجيب دعوته: هل الأفضل له أن يدعو أو أن يصبر؟ وهل كان عمل السلف الدعاء أو الصبر؟ يقول: (ومثل هذا كثير جداً يطول استقصاؤه، وأكثر من كان مجاب الدعوة من السلف كان يصبر على البلاء، ويختار ثوابه ولا يدعو لنفسه بالفرج منه.وقد روي أن سعد بن أبي وقاص كان يدعو للناس؛ لمعرفتهم له بإجابة الدعوة، فقيل له: [لو دعوت الله لبصرك وكان قد أضر -أي: ذهبت عيناه-، فقال: قضاء الله أحب إلي من بصري] ). فهم رضي الله تعالى عنهم كانوا يختارون الصبر فيما ينزل بهم هم، كما هو حال سعد رضي الله تعالى عنه، فإذا نزل بأحدهم مرض أو بلاء يعلم أن فيه رفعاً للدرجة، وزيادة في الأجر عند الله تبارك وتعالى، وتكفيراً للخطيئة؛ فهو يستحيي من الله -وإن كان يعلم أنه مجاب الدعوة- أن يسأل الله أن يرد ذلك البلاء أو ذلك المرض، ولا يعني ذلك أنه لا يدعو الله، وإنما يدعو الله أن يؤجره على ما أصابه؛ لما يعلم من أن الأجر على المصيبة خير وأفضل للعبد في كثير من الأحيان من دفع هذا البلاء، فلو مرض العبد المؤمن ودعا الله أن يؤجره على مرضه هذا؛ فإن الأجر الحاصل له أفضل من لو أنه شفي، فهذا اجتهادهم ووجهة نظرهم رضي الله تعالى عنهم، وأما إذا جاءه آخرون ورأى أن البلاء قد نزل بهم، وهو يستطيع أن ينفعهم بدعائه؛ فإنه يدعو لهم.إذاً: فلا نقول: إن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم لا يدعون الله، وهذا إن شاء الله سيأتي في باب الدعاء وسنوضح ذلك، وسنذكر أن من قال: إنه لا فائدة من الدعاء، أو لا حاجة إليه؛ هم الصوفية ، فقد قالوا: إن الدعاء ضد القضاء، أو أنه يعارض الصبر والرضا بالقضاء، فلذلك فخيرٌ للإنسان ألا يدعو! وهذا باطل، قال الله: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ))[غافر:60]، وقال: (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ))[البقرة:186]، فلا بد أن ندعو الله، ولا غنى لنا عن الله عز وجل لحظة واحدة، وأكثر الناس قرباً من الله أكثرهم دعاء له، وكما قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب فأي واحد من الخلق مهما كان كريماً؛ إذا أكثرت عليه بالسؤال كل يوم، أو كل شهر، وكررت عليه، فإنه يغضب ويأنف، ولا يريدك أن تكرر ذلك، ويبتعد منك، وأما الله تبارك وتعالى فإن محبته لك، وقربك عنده يزداد بمقدار ما تدعوه، وتلح عليه ولو في أمر حقير؛ حتى في شراك النعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته وعلمهم ذلك، وكان هو صلى الله عليه وسلم يدعو الله حتى حيثما وعده الله تبارك وتعالى، ولا شك في وعد الله؛ كما حدث في يوم بدر ، (( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ))[الأنفال:7]، والتقت الطائفتان، فأصبح لا بد من ذات الشوكة، فقد وعدهم الله إياها، ومع ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم دعاء شديداً طويلاً حتى سقط رداؤه عليه الصلاة والسلام، وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: [ خفف على نفسك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعد ]. فالدعاء عبادة، والدعاء هو في ذاته قربة، فلا يتركها أحد من الخلق، لكن من ترك الدعاء من السلف وهو موقن أن الله سيستجيب دعاءه؛ تركه لهذا الاعتبار وهو: أنه إن أصيب أو أوذي أو ابتلي فإنه سيصبر ويحتسب، ويناله الأجر من الله تبارك وتعالى، وهو لا يترك الدعاء مطلقاً؛ لكن يترك الدعاء حتى يذهب عنه هذا البلاء، ويدعو الله تبارك وتعالى دعاء آخر، ومنه أن يدعوه أن يؤجره، وأن يعظم له أجره، وأن يكتب له ذلك العمل، كما ذكر الله تعالى: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ))[البقرة:155-157]، فمن كان يريد من الله الصلوات، والرحمة، والهداية التي عبر عنها عمر رضي الله تعالى عنه بقوله: [نعم العدلان، والعلاوة الثالثة ] فإنه يصبر على هذا البلاء إن كان في الأهل، أو في النفس، أو في المال، خوفاً أو جوعاً أو ما أشبه ذلك، فلا يدعو الله أن يدفع ذلك عنه، وإنما يدعو الله أن يأجره عليه، فهذا لا إشكال فيه إن شاء الله، وهو غير ما يراه الصوفية وأمثالهم ممن يقولون: إن الدعاء ينافي التوكل أو ينافي التفويض.